السبت، 18 أكتوبر 2025

اختصاص المحكمة الاقتصادية في قضايا مكافحة غسل الأموال

تُعد جريمة غسل الأموال من أخطر الجرائم الاقتصادية التي تهدد استقرار النظام المالي والاقتصادي لأي دولة، لما تنطوي عليه من محاولات لإضفاء صفة المشروعية على أموال تم الحصول عليها من مصادر غير قانونية.

وفي مصر، أسند المشرّع مهمة الفصل في هذه القضايا إلى المحاكم الاقتصادية، تأكيدًا على طبيعتها الخاصة وتشابكها مع الأنشطة التجارية والمصرفية.

أولًا: الإطار القانوني لاختصاص المحكمة الاقتصادية

صدر القانون رقم 120 لسنة 2008 بإنشاء المحاكم الاقتصادية، لتكون جهة قضائية متخصصة تنظر في المنازعات ذات الطابع المالي والتجاري المعقد، بما في ذلك الجرائم المنصوص عليها في القوانين الاقتصادية.
وقد جاء قانون مكافحة غسل الأموال رقم 80 لسنة 2002 وتعديلاته ليرسخ هذا الاختصاص، حيث نصت المادة (16) منه على أن "تختص المحكمة الاقتصادية دون غيرها بنظر الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون."

بهذا النص، انتقل اختصاص نظر جرائم غسل الأموال من المحاكم الجنائية العادية إلى المحاكم الاقتصادية، إدراكًا لطبيعة هذه الجرائم التي تتطلب فهمًا دقيقًا للنظم المصرفية والتحويلات المالية الدولية.

ثانيًا: طبيعة جريمة غسل الأموال

تتمثل جريمة غسل الأموال في كل فعل يهدف إلى إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال الناتجة عن جرائم أصلية مثل الاتجار في المخدرات، أو الرشوة، أو التهرب الضريبي، أو الاتجار بالبشر.
وتُرتكب الجريمة غالبًا عبر مراحل ثلاث:

  1. الإيداع (Placement): إدخال الأموال غير المشروعة في النظام المالي.
  2. التمويه (Layering): إجراء عمليات مالية معقدة لإخفاء مصدر الأموال.
  3. الدمج (Integration): إعادة ضخ الأموال في الاقتصاد كأموال مشروعة.

وهنا يظهر دور المحكمة الاقتصادية في تحليل هذه المعاملات بدقة، من خلال الاستعانة بخبراء البنوك والهيئات الرقابية.

ثالثًا: دور المحكمة الاقتصادية في نظر قضايا غسل الأموال

تمتاز المحكمة الاقتصادية بتركيبة قضائية متخصصة تجمع بين القضاة ذوي الخبرة في الشؤون المالية والتجارية، وهو ما يضمن فهماً عميقاً للجوانب الفنية المعقدة في جرائم غسل الأموال.
وتشمل اختصاصاتها:

  • النظر في الدعاوى الجنائية ضد الأفراد أو الكيانات المتورطة في عمليات غسل الأموال.
  • الفصل في الجرائم المرتبطة مثل جرائم البنوك، وسوق المال، وتمويل الإرهاب.
  • التحقق من مصادر الأموال والتحويلات البنكية باستخدام تقارير وحدة مكافحة غسل الأموال بالبنك المركزي المصري.
  • توقيع العقوبات المقررة التي قد تصل إلى السجن المشدد ومصادرة الأموال محل الجريمة.

رابعًا: التعاون بين المحكمة الاقتصادية والجهات الرقابية

لا تعمل المحكمة بمعزل عن باقي مؤسسات الدولة، بل تعتمد على تقارير الجهات المختصة، وعلى رأسها:

  • وحدة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التابعة للبنك المركزي.
  • النيابة العامة الاقتصادية التي تتولى التحقيق والإحالة للمحكمة.
  • الهيئة العامة للرقابة المالية والجهات الرقابية المصرفية التي توفر المعلومات اللازمة لتتبع حركة الأموال المشبوهة.

هذا التكامل المؤسسي يعزز من قدرة الدولة على مواجهة غسل الأموال باعتباره نشاطًا عابرًا للحدود يتطلب تضافر الجهود المحلية والدولية.

خامسًا: الأثر الاقتصادي والقانوني لاختصاص المحكمة

إسناد قضايا غسل الأموال للمحكمة الاقتصادية لم يكن مجرد تنظيم إداري، بل خطوة استراتيجية لتحقيق عدالة متخصصة وسريعة، حيث تتميز المحاكم الاقتصادية بسرعة الفصل في القضايا، مما يساهم في تعزيز ثقة المستثمرين في بيئة الأعمال المصرية.
كما أن هذا التخصص يُمكّن القضاء من تكوين سوابق قضائية تُرسّخ مبادئ قانونية واضحة في مجال الجرائم المالية المعقدة.


الخلاصة

إن اختصاص المحكمة الاقتصادية في قضايا مكافحة غسل الأموال يعكس وعي المشرّع المصري بخطورة هذه الجريمة على الاقتصاد الوطني، وحاجتها إلى قضاء متخصص يفهم لغة المال والقانون معًا.
فالمحكمة الاقتصادية لا تنظر فقط في أرقام وتحويلات، بل تفكك شبكة معقدة من المصالح غير المشروعة التي تهدد بنية الاقتصاد، وتعيد التوازن بين حماية الاستقرار المالي وردع الجرائم الاقتصادية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نحن نتطلع دائمًا إلى الاستماع إلى تعليقاتكم وآرائكم القيمة، فلا تترددوا في مشاركتنا بتعليقاتكم على مدونتنا والمساعدة في تحسين تجربتكم معنا

المحاكم الاقتصادية ودورها في حماية بيئة الاستثمار في مصر

تُعد المحاكم الاقتصادية أحد أهم ركائز العدالة المتخصصة في مصر، حيث تم إنشاؤها لتسريع الفصل في القضايا التجارية والاستثمارية وحماية مناخ الا...